✒️ بقلم الكاتب صَالِح الرِّيمِي
أدهشني موقف جميل كان له الأثر البالغ في تغيير مجرى حياتي وغير من تفكير حب الأنا في داخلي، ولا ضير من ذكر الموقف لهذا الرجل البسيط والأستاذ القدير وعمله البسيط معي يوم أن كنت طالبًا في مدرسة فلسطين المطورة في مدينة جدة، في إحدي الأيام دخل علينا الصف أستاذ مادة الرياضيات لكي يشرح لنا الدرس، وبينما هو يشرح الدرس كان تفكيري في خارج الصف، كنت أفكر في وضعي والدي المادي، ومعاناته في تحصيل الرزق الضعيف لأطفاله وعائلته الكبيرة، حيث تراكم عليه الإيجار لعدة أشهر وزاد دين البقالة وغيرها من الديون لأشخاص آخرين..
لكن الأستاذ بحسه الأبوي لاحظ عليّ أني شارد الذهن، فجاء إلي قائلًا فين عقلك؟ قلت له لاشيء، فقال بعد نهاية الدرس أريدك أن تأتي إلى مكتبي، قلت له أبشر وفي ظني أني ساجد منه توبيخًا شديد اللهجة، لكن كان عكس ما ظننت، احتضنني وقال: شاركني همك، فقلت في نفسي كيف عرف الأستاذ أنني مهموم؟
المهم مالكم بالطويلة، بدأت أشرح له ظروف والدي المادية ومعاناته في الرزق، مباشرة قال: خلاص مصروفك كل شهر عليّ، ثم قدم لي ظرفًا مغلفًا، وقال بلغ والدك السلام واعطه هذا الظرف هدية من أخوه أبو مساعد، ولم تنتهِ القصة هنا، بل أصبح كل شهر يعطني مصروفًا خاصًا بي وظرفًا خاصًا للوالد، وسبحان الله لم أعلم خلال هذه الأشهر كم هو المبلغ الذي في داخل هذا الظرف، ولم أسأل والدي البته مخافة احراجه..
كبرت وتخرجت وغاب عني الأستاذ لكن مازال موقف الأستاذ الجميل في مخيلتي، حتى التقيت به بعد عدة سنوات، وقلت له هل ممكن أقدم لك يا أستاذ جزء بسيط من خدمتك وموقفك الجميل والنبيل معي، قال بالحرف الواحد: أنت زائر لهذه الدنيا فاترك أثرًا خالدًا في الحياة، فإذا تريد خدمتي أعمل مثلي لمن هو محتاج إليك، وردد كثيرًا قبل وداعي: طيب الله لك البقاء في العمر وجعل لك الأثر في حياة الناس ممن حولك.
قد يتبادر لكثير من الناس لكي يكون له أثر في الحياة يلزمه أن يفعل أثر بالغ في الحياة ليسفيد منه العالم، ولا بد أن يكون الأثر أمرًا جللًا كتأليف كتاب يدخل في قائمة أوسع الكتب انتشارًا في العالم، أو أن يكون له معلقة شعرية كالمعلقات العشر، أو أن ينظْم بيتًا من الشعر تسير إليه الركبان، أو أن يكون أحد مشاهير السوشال ميديا أو أن يلقي خطبةٍ عصماء تسري في الكون مسرى الشمس والقمر، أو أن ينشئ صرحًا علميًا أو تجاريًا يتبادل أخباره أهل المشرق والمغرب..
بيْد أن الأمر أيسر من ذلك بكثير جدًا فلن يعدم أحدنا من أن يكون له أثر كابتسامة تُنبت الأمل في نفوس يائسة، أو كلمة طيبة تُحيل قحط النفوس إلى واحةٍ خضراء، أو حمل متاع لرجل أنقضت ظهره خطوب الدهر، أو دلالة في طريق سفرٍ شاق، أو إرشاد في طريق حياةٍ وعِر، أو إدخال سرور على قلب طفل، أو لقمة سائغة في فم جائع، أو مسحة حانية على رأس يتيم. أو تغيث ملهوفًا أو تقدم خدمة بسيطة كمشوار تقضي به حاجة شخص.
*ترويقة:*
مازلت أؤمن بأن العبرة ليست في أن تحيا حياة صاخبة مكتضه بالضجيج، وكثرة المعارف وزيادة في علاقاتك الاجتماعية لتمتد على اتساع الأرض؛ وأن كون لك اسمًا مميزًا، وشهرة كبيرة، ومالًا وفيرًا، بل أن يكون لك أثرًا في الحياة وأن يخلد عملك حين تغيب عن الحياة، وأن تبدأ ضوضاء عملك في غيابك؛ أكثر منها في حضورك، وأن يمتد عمر أثرك على هذه الأرض حتى نهايتها..
والعبرة كلّ العبرة في عمل القلب مع عمل الجارحة ليكون لك الأثر البالغ في الحياة، وأجرًا عند الله يدخرها لك في آخرتك، وعمقًا في نفوس الآخرين، وفي الطريق تكون عفيف الخُطا، شريف السمعة، كَريم النظر، رجلًا إِن أَتَوا بعده يقولون مرَّ من هنا رجل وهذا هو الأَثَر.
*ومضة:*
اجعل لك أثرًا، وكن من صناع الأثر الجميل في حياة، فإن أعظم استغلال للحياة هو أن نقضيها في عمل شيء ما يبقى إلى ما بعد الحياة..
يقول الأديب الرافعي: (من لم يزد شيئًا على الدنيا فهو زائد عليها!)، يقول ابن حبان البستي: «من لم يكن له همة إلا بطنه وفرجه عد من البهائم، والهمة النبيلة تبلغ صاحبها الرتبة العالية»..
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثاني