بقلم الكاتب الدكتور علي القحيص
لا يزال الكثيرون في العالم يترقبون كيف سيكون نهج الحكم الجديد للجمهورية العربية السورية، والذي بدأ يتشكل على أنقاض نظام حكم فردي دام ستين عاماً، وحوّل السلطة إلى حكم طائفة واحدة، كما حوّل البلاد إلى ثكنات وسجون وأجهزة أمن أكثر من أن تحصى.وبعد التغيير المفاجئ الذي حصل بسرعة غير متوقعة، والذي حدث خلال أسبوعين فقط، من دون صدامات واسعة ولا إراقة دماء كثيرة، استقبلتْ العديدُ من الدول السلطةَ الجديدة في دمشق بالترحاب، كما أظهر المجتمع السوري بمعظم فئاته وطوائفه سقوط النظام السابق بفرح ملحوظ، في صورة نادرة من الاصطفاف والتوافق الشعبي.
وهو الأمر الذي استرعى اهتمام المراقبين، لأنه في العديد من الأنظمة الجمهورية اعتاد الناس أن يحدث التغيير فقط من خلال البيان رقم واحد عبر الإذاعة والتلفزيون! وهكذا يبدو أن ثورة السوريين التي انطلقت عام 2011، استطاعت أخيراً تغيير نظام الحكم، لكن في بلد منهك ومحطم. لقد تمكن المعارضون المسلحون من إسقاط المحافظات والمدن، واحدة تلو الأخرى، دون معارك عسكرية تذكر، وذلك إثر انسحاب الجيش السوري أمامهم، بعد أن أصابه الضعف، وانهارت الميليشيات الداعمة له، حتى وصلوا إلى ساحة دمشق، ليرفعوا الأعلام وسط أفراح شعبية ملحوظة.
وبعد أن سقط النظام توجه مجموعة من المعارضين إلى مبنى التلفزيون الذي كان يبث ندوة عن صمود الحكم المخلوع، وكيف يتعامل مع الاحتجاجات، وحين دخلوا أبلغوهم بأن النظام سقط، وعليهم تغيير الخطاب! وهذا ما تم بالفعل، دون عنف ولا ضجيج.بعد ذلك شكّل الثوار حكومةَ تصريف أعمال لمدة ثلاثة أشهر يتم خلالها الاستعداد للانتخابات التي ستشمل أطياف المجتمع السوري كافة، واعتماد دستور دائم للبلاد. واللافت للانتباه أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بدأت تتقصى ماهية الحكومة الجديدة وأهدافها وتوجهاتها، بينما ظل العديد من دول كثيرة أخرى تنتظر بحذر وتحفظ، ترقباً للاتجاه الذي ستتطور فيه الأوضاع.
ورغم أن التغيير الذي شهدته سوريا لم يكن متوقعاً لدى كثير من دول العالم، فمن اللافت للانتباه أنه لم يصحبه أي نوع كبير من أعمال الفوضى والشغب، ولم يكن هناك نهب للوزارات، ولا حرقٌ للمؤسسات، ولم تسجل حالات اعتداء تذكر، ولم يحدث أي نوع من التخريب والانفلات الواسع.. كما حصل في العراق ودول أخرى بعد إسقاط أنظمة حكمها.
وقد علق الكاتب والمفكر السياسي المصري مصطفى الفقي، قائلاً، إن الذي حصل في سوريا أشبه بالمعجزة، مضيفاً أن حكام دمشق الجدد أرادوا إرسال إشارات تطمينية لدول الجوار والعالم بأنهم لا يريدون استعداء، أو استفزاز أحد في المنطقة أو العالم، بل قالوا، إن الثورة انتهت بسقوط النظام السابق ونهايته، أي أنه لا مجال لأي حديث حول «تصدير الثورة» إلى الخارج.. أي أنهم في الأساس معنيون فقط بتخليص الشعب السوري من المحن والمآسي والكوارث التي حلت به طوال العقود الماضية، وبمعالجة البلاد من آثارها المؤلمة وجراحاتها العميقة.
وبالفعل فقد كانت العقود الستة الماضية مرحلة زمنية قاسية على الشعب السوري، عانى خلالها الويلات، وتجرّع الآلام، وذلك في ظل كم هائل من الخطابات الثورية المزيفة والشعارات الحزبية الرنانة، تحت نظام حكم عسكري متفرد بالسلطة، جعل نصف الشعب السوري تحت الأرض، ونصفه الآخر ما بين قتيل ومشرد ومهجّر ولاجئ.
آن لملايين السوريين النازحين والمهجرين العودة إلى بيوتهم آمنين، مستقرين، مطمئنين.. فهم ثروة بشرية هائلة تتميز بالعطاء والإبداع والإنتاج، وإذا تهيأت لهم البيئة المناسبة فهم يستطيعون إعادة بناء بلدهم، والنهوض به مجدداً، رغم كل مآسي المرحلة السابقة وجراحاتها الغائرة، وآلامها العميقة.