بقلم: فهد مرزوق
في أعماق كل إنسان، هناك مساحة خاصة مخصصة للثقة والحب تجاه أقرب الناس إليه. هذه المساحة ليست عشوائية أو عابرة؛ بل تُبنى ببطء مع مرور الوقت، مستندة إلى ذكريات مواقف ووعود وأحلام. ولكن، ماذا يحدث حين تتصدع هذه المساحة بفعل الخذلان؟
الخذلان من أقرب الناس ليس مجرد ألم عابر، بل هو وجع يختبئ في زوايا الروح، يستنزف الطاقة ويعكر صفاء الأيام. قد يبدو هذا الشخص الذي وثقنا به أقرب من قلوبنا ذاتها، ثم فجأة نكتشف أن المواقف تغيّرت، وأنه لم يكن كما تخيلناه.
وقد حذر الله تعالى من الوشاية والتخريب بين الناس، فقال سبحانه:
“وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ”
(سورة القلم: 10-11).
النميمة والوشاية من أكثر الأمور التي تفرق بين الأحبة وتفسد العلاقات، وهي دليل على خبث النفوس وضعف الإيمان.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“لا يدخل الجنة نمام”
(رواه البخاري ومسلم).
فالوشاية والنميمة لا تؤدي فقط إلى تدمير العلاقات، بل هي من كبائر الذنوب التي توجب غضب الله وسخطه.
حين يختفي أقرب الناس من حياتك، خاصة في أوقات تحتاجهم فيها بشدة، تكون مرارة الوحدة أشدّ وطأة من أي ألم جسدي. تُصبح الذكريات التي جمعتك بهم ثقيلة، تسكن عقلك دون استئذان. قد تُعيد مشاهدة وجوههم وسماع أصواتهم في أحلامك، في الأماكن التي كنتم تزورونها سوياً، وفي الأحاديث التي لم تكتمل يوماً.
لكن الله عز وجل يُطمئن عباده المؤمنين الذين يتعرضون للخذلان أو التخلي، ويذكرهم بأن معيتهم مع الله تغنيهم عن البشر. يقول تعالى:
“لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”
(سورة التوبة: 40).
كيف نتخلص من الألم والذكريات؟
رغم أن وجع الخذلان يبدو في البداية وكأنه لا يمكن تجاوزه، إلا أن الزمن يُعلمنا درساً ثميناً: حتى أعمق الجراح يمكن أن تلتئم. تعال نتساعد على التحرر من هذا الألم:
1. الاعتراف بالألم: لا تُنكر مشاعرك أو تحاول قمعها. اكتبها، تحدث عنها، أو حتى ابكِ إن احتجت. السماح لنفسك بالشعور هو أول خطوة نحو الشفاء.
2. التعامل مع الوشاية بوعي: إذا اكتشفت أن الوشاية أو المخببين كانوا سبباً في تدمير العلاقة، فلا تُنكر ذلك. تعامل مع الأمر بواقعية، وابحث عن الحقيقة من دون عاطفة زائدة.
3. التسامح: ليس من أجلهم، بل من أجلك. التسامح لا يعني تبرير أفعالهم، بل يعني أن تمنح نفسك الحرية من عبء الكراهية والحزن. قال تعالى:
“وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ”
(سورة النور: 22).
4. إعادة بناء الثقة: من الطبيعي أن تشعر بالحذر بعد الخذلان. امنح نفسك الوقت الكافي، لكن لا تُغلق باب قلبك أمام العالم. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين”
(رواه البخاري ومسلم).
لا بأس أن تكون حذراً، لكن لا تفقد القدرة على بناء علاقات جديدة مع أشخاص يستحقون.
5. التركيز على نفسك: استثمر وقتك وطاقتك في تطوير ذاتك. تعلّم شيئاً جديداً، مارس هواية تحبها، أو اقضِ وقتاً مع أشخاص يقدّرونك.
الخذلان والتخلي يعلّماننا درساً قاسياً عن الحياة: ليس كل من نحبهم قادرين على أن يكونوا لنا كما نتمنى، وليس الجميع يريد الخير لنا. لكننا – رغم ذلك – قادرون على النهوض، على الاستمرار، وعلى بناء مساحات جديدة من الثقة والحب، مع أنفسنا أولاً، ثم مع الآخرين الذين يستحقون.
لا تنسَ أن الأوقات الصعبة ليست سوى محطات عابرة، وما نخرج به منها هو ما يجعلنا أقوى.
“فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”
(سورة الشرح: 6).