بقلم الدكتور علي القحيص
تصادف هذه الأيام احتفالات العالم والمؤسسات الثقافية والأدبية ذات الصلة بحماية اللغة العربية بإحياء اليوم العالمي لهذه اللغة العظيمة، وهي لغة عالمية مؤثرة ومعتمدة دولياً، بفضل تكريمها من الله تعالى أولاً، ثم من الذين صانوها وحفظوها وطوروها وحافظوا على مكانتها. ومع التطور التقني وفي ظل التكنولوجيا الحديثة، يبدو كما لو أن بعضنا قد ضاقت به اللغة العربية على رحابة صدرها، وأصبحت في موقع دفاع عن النفس وليس الإسهام في الانتشار وفرض النفوذ! ولو أن أبو الأسود الدؤلي خرج من قبره هذه الأيام الحالية، واستمع إلى بعض أحاديثنا وندواتنا ومؤتمراتنا ونشرات الأخبار على شاشات التلفزيونات لدينا وسمع الأحاديث داخل منازلنا.. لعاد إلى قبره مسرعاً وهو يحمد الله على أنه رحل في ذلك الزمان البعيد! إن لغتنا اليوم تواجه تحديات، وبعض هذه التحديات من أبناء اللغة العربية ذاتها، أي من أهلها والمتحدثين بها، لأنهم أصبحوا يتحدثون – بدلاً منها – باللغة الإنجليزية أو الفرنسية في مكاتبهم ومجالسهم، ومع أطفالهم وأصدقائهم، وهم يفعلون ذلك بزهو وافتخار لأنهم يتحدثون لغةً أجنبية بمستوى فصاحة لا يتحدثون به لغتَهم الأصلية! والأدهى من ذلك أن بعض الطلبة في مرحلة الثانوية العامة في العديد من الدول العربية لا يعرفون أساسيات الإعراب والإملاء ولا صياغة اللغة العربية وقواعدها السليمة. وفضلاً عن الخط الرديء، وعدم ممارسة الكتابة باللغة العربية، فمما زاد الطين بلة أن وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها ساهمت إسهاماً سلبياً في تكسير اللغة وتشويهها وإفراغها من محتواها. لقد باتت الكتابة على الورق من الماضي، أي من حقبة كان فيها الإنسان العربي يتباهى بلغته الجميلة، ويجتهد في تجويد صياغتها ويتغزل بجمال معانيها، ودائماً ما كان يحمل قلماً أنيقاً صُنع خصيصاً للخط العربي، يجمِّل به هندامَه ويضفي به وقاراً على شخصيته. وبالطبع فقد اختفى القلم والدفتر وحل محلهما الهاتف الذكي، بل نادراً ما يلبس الناس في أيامنا هذه ثوباً يحتوي على مخبأ للقلم. وحتى مذيعي ومقدمي البرامج أصبحوا يتحدثون ويخاطبون الجمهور باللهجة المحكية لجنسيتهم الأصلية، حتى ولو كانت لهجة أهل البلد الذين يطل عليهم من شاشة التلفاز في بلدهم تختلف عن لهجته! وحتى الذكاء الاصطناعي، في مداخله ومخرجاته ومحتواه وبرامجه المتداولة حالياً، قليل مِن المشرفين عليه مَن يتقنون مفردات اللغة العربية وأساليبها السليمة. ولعل الطريف في الموضوع أن إحدى المؤسسات الأدبية، احتفلت باليوم العالمي للغة العربية، وحين ذهبتُ للمكان كانت هناك لافتة تفيد بأن الحفل برعاية المؤسسة الفلانية، وهناك امرأة ورجل من جنسيتين أجنبيتين يجلسان على المدخل خلف طاولة عليها رزمة من الكتب حول اللغة العربية وأهميتها ودورها، وحين سألتهما عن هذه الكتب المعروضة، أهي للبيع مقابل مبلغ معين من المال أم توزع مجاناً؟ أجاباني بلغة أجنبية معتذرَين عن عدم معرفتهما باللغة العربية! وهنا أصابني شعور بالاستغراب والدهشة ممزوجاً بالضحك من هذا الموقف. أحد الإعلاميين قال لي: لا تستغرب، ادخل وشاهد ما يجري داخل قاعة الاحتفاء باللغة العربية.. وللأسف كانت الكراسي فارغة في مسرح كبير أُعد للمناسبة، لكن لم يحضر إلا الصف الأول من الكراسي في ذلك المسرح الكبير، وكان مقدم الحفل يكسر اللغة العربية في عقر دارها! ولو تعلق الأمر بحفلة مطرب لغصّت القاعة بالجمهور من الشباب والشابات رغم ارتفاع قيمة تذاكر الدخول، لكنهم لا يتحمسون لحضور حفل أدبي علمي مجاني حول أهمية اللغة العربية، وكيفية المحافظة على سلامتها وصون مكانتها.. وهي أجمل اللغات وأكثرها انتشاراً وتأثيراً وجمالاً وعذوبة.