متابعات _ واس
عدّ الباحثون في مجال الفنون المعمارية أن الأبواب الخشبية التي قاومت عوامل الزمن منذ مئات السنين ذات الزخارف المحددة, من أبرز مظاهر المهارات اليدوية التي أبدع فيها النحاتون منذ قرون مضت، وشكَّلت أرضًا خصبة لدراسة العمق الحضاري والإبداعي للجزيرة العربية بشكل عام ومنطقة عسير بشكل خاص.
وعُرفت الزخارف التقليدية على الأبواب والنوافذ الخشبية في أجزاء واسعة من الجزيرة العربية منذ القِدم حتى أصبحت رمزًا لمهارة النجار ومسوقًا لأعماله لدى المجتمع.
ويصف أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بقسم التاريخ والآثار في جامعة الملك خالد الدكتور علي عبدالله مرزوق في حديثه لـهيئة وكالة الأنباء السعودية “واس” أهمية هذا الفن على المستوى الاجتماعي بالإشارة إلى أن الإنسان كان يشعر براحة نفسية عندما كان يُجمل منتجاته، وأدواته التي كان يستخدمها في أغراضه المختلفة، حيث انتشرت الزخرفة المرتبطة بالعمارة الإسلامية في صورة نقوش وكتابات محفورة، على الأبواب والنوافذ، حتى أصبحت ملازمة للعمارة الإسلامية؛ تعبيرًا عن أهمية المبنى وإبراز قيمته الجمالية.
وتتميز الزخارف المحفورة على أبواب العمارة التقليدية بعسير ونوافذها بأسلوبها المختلف، حيث يشير الدكتور مرزوق إلى أنها تشكل أسلوبًا فريدًا من نوعه يميز النجار عن غيره من الحرفيين الآخرين ممن يمتهنون حرفًا تقليدية أخرى، لما تعكسه هذه النقوش من براعة ودقة في التنفيذ وطرق التشكيل، إضافة إلى اعتماده على تقسيمات هندسية كانت متبعة في الفن الزخرفي الإسلامي، وتوظيفه لعناصر التصميم، والنظم التشكيلية، والقيم الفنية والجمالية عند زخرفته للأبواب والنوافذ.
ويتفق مع الدكتور مرزوق في هذا الإطار الدكتور صالح أبو عراد الذي يشير في كتابه “تنومة .. زهراء السروات” إلى أن من أبرز الصناعات ذات العلاقة بمواد البناء “صناعة الأبواب والشبابيك” حيث يرى أنها صناعة تعتمد على مهارة النجار الذي يستخدم قطعًا من الأخشاب المحلية ويحولها بمهارته وأدواته إلى أبواب وشبابيك مختلفة الأحجام، وعادة ما تتم زخرفة هذه الأبواب والنوافذ بنقوش جميلة ومتناسقة، وقد تزخرف وتحلى بسبائك حديدية أو نحاسية تكون على شكل مقابض أو حلق ذات أشكال مختلفة.
ويمثل نوع الخشب المستخدم في صناعة الأبواب والشبابيك أهمية كبيرة في المنتج النهائي للنجار المحترف، حيث يعد شجر “الطلح” من أبرز المواد الأساسية لصناعة أبواب بجودة عالية وزخارف فنية متميزة، ويرجع الدكتور مرزوق السبب إلى أن شجر الطلح متماسك الألياف، يسهل الحفر عليه وتشكيله، ولهذا أبدع النجارون في نقش الزخارف على الأبواب الخارجية والداخلية، إضافة إلى براعتهم في زخرفة أطُرها المتمثلة في: (العتبة، والحلق، والعابر)، أما الأبواب الخشبية الداخلية والنوافذ فتترك لربة المنزل، ولمن يساعدنها من قريباتها أو جاراتها فتُزين بزخارف متنوعة تجمع بين الهندسية والنباتية والرمزية؛ ترحيبًا بالضيوف والزوار، وتُسند هذه المهمة – في العادة – لربة المنزل، وقد برع النجار الشعبي في منطقة عسير في إنتاج أبواب العمارة التقليدية ونوافذها الخشبية، وامتدت هذه البراعة إلى زخارفها بشتى أنواع الزخارف الهندسية والنباتية؛ ليؤكد معرفته بالخامة، وطرق التشكيل والتنفيذ، موظفًا خياله لإبداع عناصر زخرفية متنوعة استلهمها من الطبيعة من حوله، فالجبل يتحول إلى مثلث، والشمس إلى دائرة، وأغصان الشجر إلى خطوط رأسية، وخط الأفق إلى خطوط أفقية، وحبات اللوز إلى زخارف لوزية، بينما وظف أوراق الأشجار إلى زخارف نباتية ممتدة، أما انصرافه عن استلهام الأشكال الآدمية والحيوانية، فأدى إلى توظيف الزخارف النباتية والهندسية والرمزية، وقد يمزج بينهم في تصميم زخرفي واحد.
وعملت الباحثة مريم محمد العمري دراسة في (مركز بني عمرو التابع لمحافظة النماص بمنطقة عسير) عنونتها “استلهام لوحات طباعية من زخارف العمارة الشعبية في منطقة عسير”، أشارت فيها إلى أن الفنان الشعبي استخدم في الأبواب محل الدراسة عدة أشكال هندسية، ومنها المثلث وخاصة المثلث متساوي الضلعين وبعدة أساليب منها المثلثات المتقابلة بالرأس والمثلثات المتدابرة والمثلثات المتجاورة، إضافة إلى المثلثات المتراكبة على بعضها البعض الأكبر بداخله الأصغر مع استخدم الخط المائل لحشو المثلث. كذلك تم استخدام “المعين” وهو شكل ينتج من مثلثين متدابرين وقد يوجد في الزخارف الشعبية بعدة أساليب – حسب الباحثة – هي شريط من المعينات المتماسة بالأطراف ومعين يظهر نتيجة لشريط من المثلثات المتقابلات بالرأس، ومعين ممتلئ بالخطوط المائلة ومعين يظهر نتيجة لمجموعة من الخطوط الزجزاجية.
ولأهمية الإبداع في نحت ونقش الأبواب الخشبية أصبحت من رموز الوجاهة الاجتماعية، حيث يؤكد الدكتور علي مرزوق أن للباب الرئيس أهمية كبيرة اجتماعيًا، حيث إن له علاقة مباشرة برمزية الوجاهة الاجتماعية، وتحديد درجة الثراء لصاحب المسكن فقد كان الاهتمام به كبيرًا من حيث المتانة ودقة الصنعة وجمال الزخارف المحفورة عليه وغناها، الأمر الذي أظهر التباين الواضح، والغنى الزخرفي من باب لآخر، بحسب مهارة النجار وبراعته، والحالة المادية لصاحب المنزل، فالأبواب الخشبية الرئيسة للمساكن والمصنوعة من أخشاب غالية الثمن والمزينة بالزخارف المحفورة، تعكس الوضع الاجتماعي لأغنياء القرية الذين يسكنونها، بعكس أبواب عامة الناس التي تبدو متواضعة وخالية من الزخارف، بينما يترك تجميل النوافذ والأبواب الداخلية لغرف المسكن للنساء.
ويشير “مرزوق” إلى حرص الأهالي على تزيين الأبواب بشكل مستمر حتى تحول الأمر إلى عادات اجتماعية في مناسبات مثل الأعياد حيث تُجدد كل عام وخاصة عند استقبال الأعياد، ولم تقف العناية بالمداخل والأبواب عند هذا الحد بل إنه في تهامة الساحلية هناك من يزرع النباتات العطرية أمام الباب الرئيس للعشة التقليدية، وعندما تهب الرياح تدخل منها الروائح العطرية الزكية إلى داخل العشة فتنتشر الروائح الزكية كلما هبت نسائم الهواء، أما الأمثلة الشعبية المرتبطة بالأبواب، فمنها المثل الشعبي الذي يقول: “صُكْ بَابك واعْف جَارك”، ويعني المثل الابتعاد عن المشاكل. ولمكانة النجار في مجتمعه، يحظى بتقدير بالغ، ومن صور هذا التقدير الاحتفال بقدوم مولوده؛ لأنه الوريث الذي سيحمل حرفة والده.
ولا تختلف الرؤى الفنية للنجارين المحترفين في منطقة عسير سواءً في السروات أو المحافظات الواقعة في السهول التهامية فهي متقاربة إلى حد كبير في تعبيرها عن المكانة الاجتماعية والاقتصادية لصاحب المنزل قديمًا أو في خطوطها وأفكارها العامة، ولعل أبرز ما يثبت ذلك ما أورده الباحث أحمد بن مريف البارقي في كتابه ” الآثار والتراث في بارق” من وصف لعدد من النقوش التي اشتهرت بها أبواب بعض القصور التراثية في محافظة بارق ( 120 كلم شمال مدينة أبها) ففي وصفه لنقش على عتبة الباب الشرقي لـ”قصر بن زعبان” في قرية ساحل التراثية، يشير إلى أن الزخرفة تمت بطريقة النقش الغائر على الخشب، حيث تتكون من أربع وحدات نقشية متكررة ويفصل بين كل وحدتين أربعة خطوط عمودية مستقيمة، والنقش عبارة عن رؤوس أسهم مثلثة تتجه الى اليسار جميعها وعددها أربعة يتلوها مثلث أفقي مشذب الأطراف بشكل هرمي، ويبدأ النقش وينتهي بأربعة خطوط غائرة مستقيمة الشكل.
ووصف الباحث البارقي زخرفة عتبة النافذة التي يطلق عليها محليًا “الردم” والموجودة في أحد المنازل بقرية “ساحل” الأثرية، أنها نقشت على طريقة النقش الغائر، بمهارة وحرفية – وهي عبارة عن صف أفقي من المثلثات المزدوجة، في كل وحدة نقشية وكل مثلث منهما محاط بتشذيبات تربيعية تقتص من حدود المثلث؛ لتجعل المثلث مدرجًا بشكل هرمي، ويفصل بين كل وحدتين خطان مزدوجان من النقوش المتعرجة عموديًا على هيئة مثلثات صغيرة، وهكذا يتكرر نسخ النقش.
كذلك وصف البارقي ملامح النقش على باب أحد القصور في قرية “ساحل” ببارق وهو قصر “راجح” أنه عبارة عن نقش بالنحت الغائر، ويتكون من ثلاثة أزواج من النقوش التي نقشت على امتداد أفقي على هيئة مثلثات تصطف فوق الخطين الأفقيين للأعلى وإلى الأسفل، بحيث نلحظ أن رؤوس المثلثات على الخط الأول للأعلى بينما الخط الثاني يكون رؤوس المثلثات معاكسًا إلى الأسفل.
وتمثل هذه المهارات الفنية والاهتمام بالتفاصيل الهندسية الدقيقة أحد مظاهر العمارة التقليدية في منطقة عسير مما جعلها محل دراسة عددٍ من الباحثين من داخل المملكة وخارجها مثل الباحث الفرنسي الراحل”تيري موجيه” الذي عرف بعشق الفنون وتوثيق حياة الشعوب بالصورة والكلمة. فخرج بكتب “عسير غير المكتشفة” و“رجال الطيب ومدرجات خضراء في المملكة العربية السعودية” و“رُجال بحركة الفرشاة.. قرية استثنائية في المملكة العربية السعودية” و“صور من المملكة العربية السعودية.. الفن المعماري والزخرفة الجدارية في منطقة عسير” و“بدو المملكة العربية السعودية”.
وقد احتفت وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة في عام 2021 م، بإعادة نشر كتب البروفيسور الفرنسي الراحل التي رصد من خلالها مظاهر الثقافة والحياة في جنوب السعودية خلال فترة الثمانينيات الميلادية، حيث وثّق “موجيه” موروث المملكة التراثي والحضاري فوتوغرافيًا، بمجموع صور بلغ نحو 10 آلاف صورة فوتوغرافية، جمعها وأصدرها في كُتبٍ تبرز الطراز العمراني الذي تميَّزت به المنطقة حينها، وإرثها التاريخي العريق الممتد لآلاف السنين، والحياة الاجتماعية وأبرز مظاهر العادات والتقاليد التي كانت تميِّز أهالي المنطقة.