🖌️ بقلم اللواء ركن مهندس الدكتور الأمير بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود
ببزوغ فجر غدٍ السبت، يكون قد مضى شهر ونصف الشهر على رحيل الوالد العطوف الحنون، عبد الله بن تركي بن عبد العزيز آل سعود، عليه رحمة الله ورضوانه.. انقضت تلك المدة ثقيلة بطيئة كأنها دهرٌ.
دلفت اليوم إلى مجلسه الذي كان ذات يومٍ عامراً بوجوده، بحثاً عن عبق رائحته الزكية، متلمساً أنفاسه التي كانت تملأ المكان، فينبض بالحياة، ويزهر بنشاطٍ دءوبٍ يُعدي الجميع، فيتحول الكل إلى خلية نحل تستمتع بالعمل وتسعد بالإنتاج.
صحيح إن شخص أبي المكرم قد غاب عنَّا، غير أن صدى صوته ما زال يتردد في الآفاق، وأحسب أنه سيظل إلى الأبد على تلك الحال.
فهذا مصحفه، وتلك مسبحته، وهنالك نظاراته، وغير بعيد مشلحه، وعلى تلك الطاولة مجموعة الكتب الأثيرة لديه التي لم تكن تفارقه في حِلِّه وترحاله.. بل أكاد أرى خطواته، وأسمع وقع أقدامه يجوب المكان. وهنا… وهنالك… وفي كل مكان في داره أثر يدل على أنه كان ذات يومٍ هنا رجلٌ كبيرٌ.. كبيرٌ في كل شيء، حتى في تحمل الألم؛ إذ لم تكن نفسه الكبيرة المترعة بالإيمان تجزع لنازلة مهما تعاظمت. وبالمقابل لم تكن تلك النفس الكبيرة تعرف البطر مهما أقبلت الدنيا عليه.
أجل، هكذا كان أبي رحمه الله وغفر له، كما أصفه بلسان شاعر المهجر إيليا أبو ماضي:
جرئٌ على الباغي، عيوفٌ عن الخنا
سريعٌ إلى الداعي، كريمٌ بلا مَنّ
وبينما النفس المكلومة، المحتسبة، الراضية بقضاء الله وقدره، ساربة تجتر تلك الذكريات التي تحفها عاطفة جياشة، تسلّلت إلى الذهن قصيدة (الكوكتيل) الكويتي حسين العبد الله.. أجل أصفه كذلك لأنه شاعرٌ، ملحنٌ، مذيعٌ ومطربٌ، بعنوان: يا ليتني خاتم.. التي أجدها أشبه ما تكون بشريط سينمائي يستدعي بعض تلك الصور الرائعة الجميلة التي استوطنت ذاكرتي البعيدة منذ طفولتي المبكرة، وأنا أقتفي أثر أبي في كل شيء؛ الذي طوى رحيله بعض نفسي، فيما بقي بعضها الثاني يفيض به جفني.. يقول (الكوكتيل) في قصيدته تلك:
لو أمطرت ذهباً من بعد ما ذهبا
لا شيء يعدل في هذا الوجود أبا
ما زلت في حجره طفلاً يلاعبني
تزداد بسمته لي كلَّما تعبا
لم يحنِ ظهر أبي ما كان يحمله
لكن ليحملني، من أجلي انحدبا
وكنت أحجب عن نفسي مطالبها
فكان يكشف عمَّا أشتهي الحجبا
أغفو، وأمنيتي سِرٌّ ينام معي
أصحو، وإذ بأبي ما رمت قد جلبا
كَفَّاه غيمٌ، وما غيمٌ ككف أبي
لم أطلب الغيث إلا منهما انسكبا
يا ليتني الأرض تمشي فوقها فأرى
من تحت نعلك أني أبلغ الشهبا
مهما كتبت به شعراً، فإن أبي في
القدر فوق الذي في الشعر قد كتبا
يا من لك أبٌ أهملت طاعته
لا تنتظر طاعة إن صرت أنت أبا
فالبِرُّ قرضٌ إذا أقرضته لأبٍ
يوفيكه ولدٌ والبر ما ذهبا
لا تنتظر موته، صِلْ في الحياة أبا
لا ينفع الدمع فوق القبر إن سُكِبَا
فاللهم إني أسألك باسمك الأعظم، في هذه الساعة المباركة، من هذا اليوم المبارك، أن ترحم أبي، وتغفر له، وتجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن تجعل نزله يوم الحشر الفردوس الأعلى، وأن تكرمه بصحبة نبيك عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأن تتفضل عليه برؤية ذاتك العلية؛ وأن ترحم جميع أموات المسلمين.
والحمد لله على كل حال، و (إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون).
وعزائي:
إن أعظم مجدي كان أنك لي أبٌ
وأكبر فخري كان قولك: ذا إبني
والختام:
على ذلك القبر السلام، فذكره
أريج به نفسي عن العطر تستغني