بقلم الدكتور علي القحيص
على مدار السنوات والعقود والقرون، يفاجئنا التطور العلمي والفني بتقنيات حديثة تنسخ ما قبلها من إنجاز متقدم على كثير من المستويات والصعد؛ فبعد اكتشاف الكهرباء والتكييف والهاتف، تم اكتشاف الراديو والتلفزيون والسينما والكاسيت والفيديو.. ثم الحاسب الآلي والأجهزة الذكية الملهمة في تفاصيلها التي أحدث نقلةً نوعيةً في حياة البشرية وجعلت العالَمَ قرية واحدة صغيرة، خاصة مع تطور العالم الرقمي والتقنيات التواصلية الدقيقة في عالم التكنولوجيا الجديدة التي حجّمت الكثير من الأعمال التقليدية.
والآن أتت موجة مخرجات الذكاء الاصطناعي ووظائفه، بتقنياته الدقيقة ومهاراته العالية المتطورة والمبهرة، وما تنطوي عليه من تفاصيل مكّنته على نحو ما من «استنساخ» البشر بالصوت والصورة والحركة والشكل، وفق إمكانات تجاوزت المعقول وتخطت التوقع وفاقت الوصف.. رغم أن بواكير الذكاء الاصطناعي بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي في محاكاة الذكاء البشري، كعمل إبداعي من خصوصيات الإنسان، مثل الرسم والنحت والزخرفة والتصوير.. وأي موهبة من مواهب الوعي البشري المتحضر.
إلا أن الذكاء الاصطناعي وصل في السنوات الأخيرة مدياتٍ غير مسبوقة، ودخل مختلفَ المجالات وصار جزءاً من ممارسات مهنية كثيرة. أخصائيو الذكاء الاصطناعي بدؤوا يطلقون له العَنان ويفتحون لتطوره كلَّ الأبواب على مصراعيها بلا توقف، ودون استثناء مجال أو تفصيل من تفاصيل الحياة مهما كان. في مطلع الأسبوع الماضي حضرتُ مؤتمرَ شبكة أبوظبي للإعلام، الذي نظمته صحيفة «الاتحاد»، واستضاف عدداً من الخبراء ونخبةً من الشباب الإماراتي المتخصص في أساليب وتقنيات ومهارات الذكاء الاصطناعي، لمناقشة آفاقه وتداعياته وآثاره في مختلف مجالات الحياة. ناقش المشاركون عبر مجموعة متعددة من الجلسات أهمَّ الفوائد والإيجابيات التي يمكن أن تتحقق من توظيف الذكاء الاصطناعي واستغلاله، سواء في القطاع الحكومي أم في القطاع الخاص، وسبل تنميتها واستثمارها، وأهمية تسريع الاستجابة للتعامل مع هذا التطور الذكي بما يتطلبه من عناية وإدراك وحذر.
ورغم كثافة الموضوعات وتشعب النقاشات التي جرت بين المتخصصين، فقد ناقشوا أيضاً ضرورةَ التصدي لبعض الجوانب السلبية الأخرى، مثل ما يقوم به بعضُ المغرضين مِن استخدام للذكاء الاصطناعي في سبيل استهداف بعض الدول العربية التي تحاول تثبيتَ وجودها في هذا المجال الحيوي المذهل. إنهم يستخدمون هذا الاختراع الرائع فقط في جوانبه السلبية الهدامة بغية الإساءة للآخرين ومحاولة إلحاق الأذى بهم. حُق لنا أن نتبنى ونحتوي «غول» الذكاء الاصطناعي وأن نطلق مبادرات لتعريبه بكل تفاصيله وجوانبه المتنوعة، العلمية والفنية والمهارية.. لكي نستفيد من تطوره الملهم.. وذلك على غرار ما قام به رجل الأعمال الكويتي الراحل محمد الشارخ، حين أطلق في ثمانينيات القرن الماضي مؤسستَه الإلكترونية «صخر» لتعريب الحاسوب، وهي تجربة استفدنا منها جميعاً، وكانت تجربة ثرية ناجحة ونادرة.
والآن أيضاً نحتاج إلى خطوة مميزة وجبارة مثل هذه، بغية تقريب وتوطين وأنسنة هذا الأخطبوط الذي غزا العالم بسرعة مثيرة للدهشة، حتى استسلمت له كلُّ صناعات العالم واكتشافاته السابقة، وأصبح سيد عصره بلا منازع. إننا بحاجة إلى أن نحصن أنفسَنا ومجتمعاتنا من هذا «الذكاء»، وإلى تعريبه وتهذيبه وترويضه، كي يخضع لاحتياجاتنا وطموحاتنا المشروعة، وكي لا نكون أسرى خاضعين لميكانيزماته الفنية، ومن ثم نصبح نسخةً مهجنة بلا بصمة ولا هوية!