✍🏻 بقلم اللواء ركن مهندس الدكتور الأمير بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود
عندما استعاد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود الرياض، فجر الخامس من شهر شوال عام 1319، الموافق للخامس عشر من شهر يناير عام 1902، إثر تلك الملحمة التاريخية البطولية النادرة، كان مشروعه واضحاً ورؤيته محددة، نتيجة قراءته العميقة للتاريخ، وإدراكه أسباب أفول نجم دولتي آبائه وأجداده الأولى والثانية.
ولهذا كان الأمن والاستقرار هاجسه الأول. فشرع في تحصين المدينة ببناء سور حولها ضماناً لصد غارات المعتدين، استغرق بناؤه أربعين يوماً، جعل له بوابات (دراويز) أقام عليها حراساً مشهود لهم بالشجاعة والصدق والوفاء والإخلاص، تغلق بعد صلاة العشاء مباشرة، ولا تفتح إلا بعد صلاة الفجر. فكان على كل قادم إلى مدينة الرياض بعد إغلاق البوابات، أن ينام خارج سورها الحصين، ولا يُؤذَن له بالدخول إلا بعد فتحها عند الانتهاء من أداء صلاة الفجر.
وكانت مساحة الرياض آنئذٍ محدودة بسورها ذاك، تسكنها بضعة آلاف نسمة، كلهم تقريباً من المواطنيين، يعتمدون في غذائهم على ما تجود به أنعامهم وأشجار نخيلهم.
ثم عاماً بعد عام، وقافلة خيرنا القاصدة تحث الخطى قدماً إلى الأمام، فتتمدد معها المدينة، زاحفة في كل الاتجاهات، حتى تجاوزت مساحتها اليوم الستة آلاف كيلو متر مربع؛ يقطنها نحو سبعة ملايين نسمة، وتحولت بيوت الطين واللبن إلى أبراج شاهقة؛ بل أكثر من هذا: اتصل ليل الرياض الذي كان آنئذٍ مظلماً ساكناً بنهارها.
تراءت أمامي هذه الصور العجيبة المدهشة، واستعرضها خيالي كشريط سينمائي بينما كانت الطائرة تحلق بنا في سماء الرياض ليلاً استعداداً للهبوط في مطار الملك خالد الدولي، فبدت لي الرياض وأنا أتأملها من نافذة الطائرة، بستاناً رائعاً سابحاً في بحر من الأضواء المتباينة بين الأبيض، الأصفر، الأزرق، الأخضر، الأحمر والبنفسجي؛ تماماً كثمار أشجار البستان في تنوعها، وتباين أزهار الحدائق وورودها.. والسيارات تجوب الشوارع جيئة وذهابا، التي انتظمت المدينة في كل الاتجاهات، لتضفي بانتظامها وأنوارها العالية جمالاً على تلك اللوحة الرائعة.
والأعجب من هذا والأكثر دهشة: مثلما كانت الرياض هانئة آمنة مطمئنة في عهد المؤسس، مع بضعة آلاف من السكان كلهم تقريباً من أهل البلاد الأصليين، هي اليوم أكثر هناءً وأماناً واطمئناناً واستقراراً وازدهاراً، مع تمددها وازدحامها بالسكان من أهلها والوافدين إليها من كل بقاع الدنيا بمختلف ثقافاتهم ومفاهيمهم.
أجل، تلك لوحة فسيفسائية رائعة بلا ريب، تحتفظ بعبق الماضي، وتنثر شذى الحاضر الفواح، وتحمل في رحمها عبير الغد المشرق.
وأكاد أجزم أن مثل هذه الخاطرة ستكون أكثر عجباً ودهشة عندما تبلغ رؤية ولي عهدنا القوي بالله الأمين أجلها في (2030).
ولهذا أحسب أننا مهما صلينا وسجدنا لربنا عزَّ و جلَّ، وبالغنا في ثنائنا عليه، وهو أهل له سبحانه وتعالى، لن نوفيه و لو نزراً يسيراً من حق شكر نعمه علينا.. فها نحن ننعم بحياة هانئة آمنة مطمئنة مستقرة، يسودها الود والتراحم والاحترام والتقدير بين سائر أبناء الوطن في كل أرجائه بكل قبائله وأقاليمه، كما يؤكد دوماً ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حتى أصبحنا جسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. إضافة إلى أن قافلة خيرنا القاصدة تحقق مع بزوغ كل فجر جديد مزيداً من التنمية من أجل توفير مزيد من الراحة للجميع؛ فيما تتآكل الدول حولنا بمعاول الهدم التي يشهرها كل فريق من أهلها في وجه الفريق الآخر.
فاللهم إنَّا نسألك أن تجزي عنَّا ولاة أمرنا خير الجزاء، وأن توفقهم دوماً لخدمة بلادنا، وتسدِّد خطاهم لحفظ أمننا، ومواصلة مسيرة قافلة خيرنا القاصدة إلى الأبد إن شاء الله.